الثلاثاء، 12 فبراير 2013

حوار: فؤاد الشرايري

 
قضايا الأدب والنقد ليست من القضايا النوافل التي يكتفي بالإشارة إليها هنا أو الإشارة إليها هناك، بل هي في مقدمة القضايا التي شغلت – ولا تزال- بال الإنسان الشاخص أبدا إلى إحداث التوازن العقلي والعاطفي، والذي أخلت به عوامل ومؤثرات تدق عن الحصر، فإذا وقف الإنسان بباب الأدب والنقد ناشداً هذا التوازن لعقله ولنفسه. وجب له عند الأديب وعند الناقد حقان، فإن ظفر بهما وإلا ظل سادرا في غياهب القلق والاضطراب، أما الحقان اللذان له على الأديب فيتمثل أولهما في ابتعاد الأديب به عن التهويمات الغريبة والأجواء الدخيلة التي لا تمثلنا ولا نمثلها. ويتمثل ثانيهما في عدم الانكفاء على الواقع البشري المباشر، بل ما وراء ذلك من الواقع الفكري والنفسي. وأما الحقان اللذان له على الناقد فيكمنان في استكشاف كوامن الإبداع عند الأديب على الشرطين السابقين ثم في تصويبه إن أخل بهما أو بغيرهما.
ـ حول مضامين هذه القضايا وأمثالهما كان هذا اللقاء مع القاص الدكتور أحمد الزعبي. العلاقة الحميمة بين بطاقة أديبنا القصصية وبين بطاقته الشخصية تجعلنا نتطلع إلى استقراء البطاقتين معا واستجلاء تلك العلاقة الوثيقة بينهما. ترى ماذا تقول تلكما البطاقتان للقارئ؟
درست في الجامعة الأردنية ثم جامعة القاهرة ثم أمريكا (الدكتوراه) وكان اهتمامي منصباً على الأدب العربي الحديث، وبخاصة الرواية والقصة القصيرة، وهو أمر أغراني وشجعني على الكتابة في عالم القصة المعاصرة، فقد صدر لي سبع روايات، منها: مقدمات إلى الحقد، صم بكم عمي، العنّة، وراء الضبع. وأربع مجموعات قصصية، منها: البطيخة، خيل الحكومة وثمانية كتب في النقد الأدبي منها: الإيقاع الروائي، سلطة الأسلوب، التيارات المعاصرة في القصة القصيرة، الموت في الرواية العربية والغربية. أدرّس في جامعة اليرموك من عام 1982.
ـ الطرح الأدبي للقاص قد يتفق وقد يختلف مع الطروحات الأدبية السائدة بله الطروحات الفكرية المباشرة، ما هي أوجه الاتفاق أو الاختلاف في الطرح الأدبي لأعمالك القصصية عن الطروحات الأدبية الأخرى المتداولة؟
أحاول قدر استطاعتي تطوير ما أكتبه من أعمال إبداعية أو نقدية، وأتمنى أن أفلح في هذا، فهدف كل من يكتب أن يتجاوز السائد إلى الأفضل فنيا وفكريا، ولكن هل يتحقق هذا، أرجو ذلك.
ـ ما هي الاتجاهات الفكرية التي أفرزت القصة القصيرة بنوعيها – عندنا في الشمال – والتي أفرزتها القصة القصيرة نفسها فيما بعد؟ وأين أنت من هذا الاتجاه الفكري أو ذاك؟
تطرح القصة القصيرة رؤى فكرية متنوعة في الشمال والجنوب وكل مكان، وهي تراوح ما بين التجديد والتقليد، ما بين الرؤي السياسية والدينية، والثورية... إلى غير ذلك، وأنا أحاول أن أسهم في طرح قضايا فكرية، متعلقة بقيم الإنسان المتقهقرة على جميع الأصعدة، لعلنا نستعيد بعضا من هذه القيم الضائعة أو على الأقل نوقف اندثارها من واقعنا الاجتماعي أو الإنساني. كل ذلك مع الحفاظ على مستوى فني مقبول للقصة.
ـ الأدب – أيا كان جنسه- مرآة الأديب، وما قيل في البعد الإنساني أو الحضاري فقد قيل وكفى وأخذ حظه من الأخذ والرد وانتهى. مقولة ترددت على ألسنة بعض الأدباء – عندنا في الشمال ماذا تقول لهم؟
القول بأن كل ما يمكن أن يقال ويكتب قد قيل وكُتب قول غير دقيق وغير منطقي، وهو يتكرر من آلاف السنين، وتذكر قول عنترة في مطلع معلقته " هل غادر الشعراء" وآخرون كثيرون رددوا: ماذا يمكن أن نقول بعد قول العمالقة والعظماء، لكن القول استمر والكتابة استمرت، ولم يخل عصر من العصور من كتابات عظيمة ومن ظهور عمالقة في الفكر والأدب وشتى أنواع المعرفة، فالمسألة ببساطة أن كل عصر يفرز قضاياه وقيمة وتحولاته .. ولغته التي تحتاج إلى أجيال أخرى من المفكرين والعظماء والأدباء دون أن يلغي الحديث القديم ولا العكس.
ـ يذهب بعض الأدباء والنقاد إلى أن أكثر أدبنا الحديث والمعاصر مستحوذ عليه فهو لم يتحرر بعد من النموذج الغربي المحتذى أو هذا النموذج بعد أن مر عبر المحاكي المصري أو اللبناني أو العراقي.. إلخ، ما هي أسباب هذا الاحتذاء إن وجد وما وسائل التخلص منه؟
لم تعد المسألة في أيامنا التأثر بالأدب الأجنبي، فذلك أهون بكثير مما نحن فيه، فمن ناحية، لا يعيب كاتبنا تأثره بالأدب الإنساني تأثراً واعياً توظيفياً بحيث يطوعه لطرح همومه الذاتية في مجتمعه من منطلق أن التجربة الإنسانية لكل إنسان ولكل البشر، والاستفادة منها قد تكون مفيدة. غير أن المشكلة لدينا من ناحية أخرى، أننا نسئ فهم الموجات الأدبية والفنية في الغرب أو غيره ونأخذ قشرتها التجديدية أو الحداثية ونكتب ما هب ودب ظنا منا أن هذه هي الحداثة الغربية مثلاً. والمسألة ليست كذلك، خذ مثلا كتابات "جويس" أو "كمنجز" في الرواية أو في الشعر في الغرب، التي تعد قمة التعقيد في الأدب الحديث، فبعد الدراسات والتحليل تصبح كتابات عظيمة ونكتشف أنها أعمال فيها تجديد وحداثة وعمق ورؤى إنسانية وفنية أصيلة، لكن بعض كتاباتنا المعاصرة لو درستها بألف مجلد وألف سنة تخرج مثلما دخلت، فكأنك تطلب من الحجر ماء. ومع كل ذلك، فكثير من أدبائنا الجادين يستقلون بفنهم ويستثمرون مواهبهم وطاقاتهم الإبداعية ويقدمون لنا أدبا أصيلا متميزا منفتحا على كل آداب الدنيا ولكنه مستقي من تجربة وموقف ورؤية خاصة بالأديب نفسه.
ـ ما رأيك في القاص الذي يتنقل بين أكثر من مدرسة أدبية واحدة؟ وهل نستطيع مطالبته – نقديا – بعدم النكوص عن الواقعية مثلا إذ كان يصدر عنها والولوج إلى عالم الرومانسية المثالية أو اللاوعي أو التعبيرية؟
الوضع الطبيعي أن يتطور الأديب بتطور الأدب وإلا تجاوزه عصره، انظر إلى المسافة بين "سجل أنا عربي" لمحمود درويش وبين" أحد عشر كوكباً" هل يمكن أن يكون درويش قبل ثلاثين عاماً هو درويش اليوم، ثم انظر إلى نجيب محفوظ في "الثلاثية" ومحفوظ في "ثرثرة فوق النيل" وأخيرا في "قشتمر" فقد انتقل هؤلاء وغيرهم من تقنية إلى أخرى ومن مدرسة إلى أخرى- إذا شئت- وهو أمر حتمي وضروري، فلكل عصر لغته، فلو قدم درويش الآن ديوانا مثل "أوراق الزيتون" لأنكرناه عليه، أو قلنا إنه ليس له، والمسألة ليست تنقلاً بين مدارس واتجاهات وإنما هي تطور وتحول واستجابة لواقع جديد وعصر جديد ولغة جديدة، فأنت لا تستطيع مخاطبة عقلية القرن العشرين بلغة القرن الثامن عشر أو التاسع عشر مثلاً.
ـ يعزو بعض القراُء سبب عزوفهم عن متابعة الرواية الطويلة إلى تباعد الأحداث بعضها عن بعض وعدم تمحورها حول شخصية أو شخصيات بطولية واضحة المعالم، ويعزو آخرون إلى نفس الأسباب عزوفهم عن متابعة القصة القصيرة على اختلاف هذه عن تلك كيف لنا أن نفهم ما يحدث لهم؟!
سبب عزوف كثير من الناس عن قراءة الروايات المطولة هو ضيق الوقت من ناحية، وتطورهم العقلي والثقافي من ناحية أخرى. فالإنسان المعاصر إجمالا لا وقت لديه لقراءة مئات الصفحات التي يغني قليلها عن كثيرها. بمعنى أن كثيراً من الروايات الطويلة تستطيع أن تقول بعشر صفحات ما قالته بمئة صفحة، وحين يدرك القارئ ذلك فإنه يعزف عن تكرار التجربة في أعمال أخرى. ثم يتحول بعد ذلك إلى قراءة الأعمال القصيرة، ومعظم الكتاب أدركوا ذلك، فنجيب محفوظ الذي كانت رواياته بمئات الصفحات لجأ في الفترة الأخيرة إلى روايات قصيرة بالمقارنة. أما التطور العقلي والثقافي للقارئ، فقد جعله يضيق بالوصف والإنشاء ولزوم ما لا يلزم في كثير من الروايات المطولة لأنه يحس أنه في مرحلة الإيحاء والتلميح والتكثيف في الكتابة، فأنت لا تحتاج إلى مئة صفحة لتقول لأحد الناس إنك مشتاق إليه وقد قتلك الحنين والهجر والبعد... إلى آخره، في حين تستطيع أن تقوله له: اشتاق إليك، اشتياق الأرض الجافة إلى المطر، مثلاً، وهذا لا يعني، في آخر الأمر ألا تكون هناك روايات طويلة، فقد تكون هناك ضرورات موضوعية وفنية تقتضي ذلك، ولهذا حديث آخر.
ـ استدعاء الشخصيات التراثية في القصة أمر لا غضاضة فيه بل قد تستدعيه طبيعة المواقف والأحداث، بل هي من إحدى التقنيات التي يعول عليها في مواجهة استلاب الشخصية العربية المعاصرة في القصة العربية كما يقولون. ما تعليقك على أولئك الذين ينظرون إلى توظيف الشخصية التراثية شزراً؟ أليس الخلاف إنما ينحصر في كيفية هذا التوظيف؟
توظيف التراث أو الأسطورة أو القصص الشعبية في الأدب المعاصر شائع وكثير، وهو يثري النص الأدبي، ويعمق أبعاده إذا أحسن توظيفه. وليس هذا الأسلوب إسقاطا دائماً، لأن الغربيين يفعلون ذلك كثيراً، وهم ليسوا بحاجة إلى إسقاط أو إلى حرية في التعبير أو غير ذلك. وإنما لهذا التوظيف أسبابه الفنية والفكرية المتعددة.
ـ هناك عمل قصصي يمنح نفسه للمتلقي منذ القراءة الأولى بينما يتأبي عمل قصصي آخر على المتلقي إلا بعد قراءات كثيرة. أيهما اقرب إليك قاصا وناقداً؟
النص العميق يمنحك جديداً عند كل قراءة، أما النص الذي يمنحك كل شيء ويفتح كل نوافذه وأسراره وأعماقه من القراءة الأولى فهو خبر في جريدة وليس أدباً.
ـ ماذا أضاف الناقد الدكتور أحمد الزعبي إلى القاص أحمد الزعبي؟
بالتأكيد أضاف الكثير، فعلى الرغم من محاولتي الجادة في الفصل بين الناقد والكاتب في لحظات الكتابة إلا أن صوت الناقد يظل مسموعاً بشكل لا إرادي في أثناء الكتابة، وبخاصة في الإطار الفني، وهو أمر على أية حال، لا يخلو من بعض الفائدة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ مجلة عرار، عمان، نوفمبر 1993.
 
 
 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــ