الثلاثاء، 12 فبراير 2013

اختفاء كتاب الأحلام

 
وانتهيتُ إلى قرار حاسم مريح وهو أن أدون في صباح اليوم التالي كل ما علق في ذهني من أحلام الليلة الماضية. وقلت إن هذا يخلصني من معاناة تذكر ما أراه في أثناء النوم عند الحاجة لتذكره، وقد لاحظت أن الأحلام تبتعد في أعماق الذاكرة ثم تغيب وتتلاشى من الذهن بمرور الأيام وتكرار الأحلام والكوابيس. قلت في نفسي أسجلها إذن في كل يوم حتى إذا ما احتجت إليها لسبب أو لآخر وجدتها مكتوبة حاضرة. وبمرور الوقت أصبحت أقلب صفحات كتاب أحلامي وأقارن موضوعاته بواقع حياتي فاستمتع بغرابة المقارنة واندهش من عجائب المفارقات والمصادفات والمشاهدات ما بيني نائما حالما مبعثراً وبيني يقظاً واعياً مبرمجاً. وبالعودة إلى كتاب أحلامي بين الفترة والأخرى بدأت ألاحظ أني اثنان، أعني شخصين رئيسين، وان كل شخص يخفي وراءه، أو يتزعم فريقا لا يحصى من الناس، وان مسائل الاختلاف بين كل فريقٍ أكثر من مسائل الاتفاق، فاقرأ أحيانا إني حلمت ذات يوم أن لي أبا آخر مثلاً، أو وطناً آخر، أو جدة أخرى أو أنفاً آخر.. وبعد أن أصحو من النوم أجد جميع الأمور كما كانت، فأبي وكذلك وطني وجدتي وأنفي.. إلى آخره. كنت أدون مثل هذا الحلم وأتجاوزه وأمضي في حياتي الطبيعية المألوفة.
هببت في صباح هذا اليوم فزعاً مذعوراً لأدون حلماً كابوساً غريباً مذهلا قبل أن يتبعثر من ذاكرتي فلم أعثر على كتاب أحلامي. ولقلقي وخوفي وانشغالي بفقدان الكتاب تناثر الحلم المذهل وتبخر من رأسي فلم أستطع أن أكتبه على ورقة أخرى ريثما أجد ذلك الكتاب. بحثت عنه في كل مكان أتوقع وجوده فيه، ثم في أمكنة أخرى لا تخطر على البال. وسألت من أعرفه ومن لا أعرفه من الناس دون جدوى، حزنت واكتأبت وأطرقت منشغل الفكر قلق البال، هل ضاع كتاب أحلامي أم سرق. أيضيع وهو إلى جانبي في كل صباح! أيسرق وهو لا يباع ولا يشتري! وغرقت في صمتي وتساؤلاتي وقلقي وحاولت الخروج من دائرة الصدمة والشلل الذهني والعجز عن التفكير بتوسيع دائرة البحث وبتحويل المسالة إلى قضية هامة وكأنها قضية حياة أو موت. رتبت أفكاري وسلسلت أحداث حياتي بدقة وتركيز في الساعات الأربع والعشرين الماضية، منذ آخر لحظة رأيت فيها مذكرات أحلامي حتى اللحظة الحاضرة. تابعت الأحداث بدقة ووضعت كل الاحتمالات وانتهيت يائساً إلى الإعلان عن سرقة كتاب الأحلام. ذاع النبأ بين الناس، انتقل من الأصدقاء إلى القوم جميعاً، ولفتت القضية أنظار من يهتم بالموضوع ومن لا يهتم، وأصبح النبأ حديث الساعة، وانقسم الناس ما بين متعاطف وهازل، ما بين مندهش وساخر، وما بين جاد متحمس للحكاية ومستهتر مستتفه المسألة كلها.
بلغت رجال الشرطة بالأمر، وعمال التنظيفات وأصحاب المكتبات العامة والخاصة وأهل الحي جميعا والباعة المتجولين – باعة الحلوى والفلافل والترمس والمكسرات والأحذية البالية والأقمشة المستعملة والكتب الرخيصة – ثم بلغت رجال الحدود والجمارك ودور النشر والسفارات ومنظمة اليونسكو ومجلس الأمن ثم زعماء العالم الأول والثاني والثالث والعاشر جميعا. تضخمت المسألة واتسعت أكثر فأكثر، وتناولتها أجهزة الاعلام ومحطات الإذاعة والتلفزيون والأقمار الصناعية وانشغل العالم كله بقضية سرقة كتاب الأحلام من أحد المواطنين الذي هو أنا. قلت ما دام أن المسألة قد شاعت وكبرت وأذيعت في القارات الخمس فانها ستنتهي على خير وسيعاد ما سرق مني وسأسترد أحلامي المفقودة. كنت انتظر أخباراً من العالم الكبير وفي ذات الوقت أكتف جهدي في البحث عن الكتاب في حارتي ومدينتي وبلدي، ورحت أسائل عمال التنظيفات وجامعي القمامة واتابع خط سيرهم من اللحظة التي يأخذون منها كيس القمامة من باب بيتي إلى عرباتهم إلى السيارات الكبيرة إلى أماكن تجمع القاذورات على شكل مزابل كبيرة. ثم أبحث في القاذورات وأتحسس المحروقات وأنبش التراب والرماد ولا أثر لدفتر أحلامي. فانتقل إلى الباعة المتجولين أقلب أوراقهم وألحق بالصغار والكبار أنظر في الأوراق التي تلف بها سندويتشاتهم أو حلوياتهم أو مكسراتهم، علِّي أعثر على ورقة من كتابي أو حلم من أحلامي.. ولكن دون جدوى. ومررت بالمكتبات ودور النشر والحانات ومتاجر الأسلحة وساحات الملاهي وتبعت الريح... ولا فائدة. وها أنا حتى هذه اللحظة أصمت وأنا صامت وأطرق واما مطرق واحلم في أحلامي... انتظر... انتظر من يأتي... أو يتصل... أو يخبر عن العثور على كتب أحلامي.
قال شاهد عيان إني أشفقت على هذا الرجل عندما قرأت صدفة في كتاب أحلامه عن أمور غريبة فسرقته منه، فهو مثلا يرى في منامه أنه ليس هو، كما أنه يرى أنه ليس في بيته ولا مع أهله، ويرى نفسه يجوب العالم بيدينٍ فارغتين، ويرى نفسه مع فتاة أسطورية، ويرى نفسه يقول شعراً كما يكتبه ويرى نفسه بلا مرض أو وجع ويرى نفسه في البحر، في الصحراء، فوق الأشجار بين الحقول... ويرى أشياء أخرى... قلت أنقذه من جنون لا محالة آت... سرقت جنونه سلبت كوابيسه خلصته من هلوساته وأحلامه القاتلة، أشفقت عليه.. نعم أشفقت عليه وأخذت كتابه.
وقال شاهد عيان آخر أن الرجل تسلم عدة برقيات محلية وخارجية تخبره بالعثور على كتاب أحلامه، لكن هذه البرقيات كانت متناقصة، فبرقية مثلا تخبره أنه عثر على كتابه في عاصمة كبيرة وأخرى تخبره بأنه عثر عليه في عاصمة صغيرة، وثالثة تخبره بأن كتابه وجد في سرداب للمساجين وأخرى تخبره بأنه وجد في معسكر للجيش، وغيرها تخبره بأنه وجد في بعض المدافن والقبور، وغيرها وجدته في سفارة ما، وغيرها.. في كتاب تاريخ أصفر مهجور بال على رف مكتبة كئيبة ما.. فاحتار الرجل في أمره وازداد إطراقا على إطراقه وأحلاما على أحلامه.
وقال شاهد عيان ثالث أنه رأى الرجل يسير في شوارع المدينة الكبيرة يتقدم حشداً هائلاً من الناس، يجوبون أحياء المدينة كأنهم يفتشون أو يبحثون عن شيء ما، وكلما سألنا واحداً منهم عمّ يبحث، يجيب: عن دفتر أحلامه.

 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ