الثلاثاء، 12 فبراير 2013

خيل الحكومة

 
انتفض جسده ورفس مرة ولم يكمل الثانية، ثم همد دون حركة، كانت عدة رصاصات قد اخترقت جسده النحيل المتآكل، وكان الجنود قد أمطروه بالرصاص بسرعة وإتقان رأفة به فلا يطول عذابه ولا يتأخر موته. هوى الحصان العجوز الضعيف أرضا مضرجا بدمائه ولم يرفس رفسة الموت إلا مرة واحدة، حاول ثانية لكن خارت قواه وانطفأ.
خضت جدالا لا ينتهي مع حفيدي، وكان في السابعة من عمره وقد رأى المشهد الحزين. كلنا شعرنا بالحزن والرأفة، لكننا اعتدنا على ذلك من زمن طويل، أما الحفيد فقد كان حزنه غريباً عجيباً، فقد فتح فمه ليصرخ عند إطلاق النار على الحصان، ولكنه لزم الصمت عندما سبق الرصاص دهشته وصوته. انهمرت دموعه غزيرة وغطى وجهه بيده. اصطكت أسنانه بشدة. ركل كرته المطاطية بعيداً ثم ضغط دون وعي لعبته الزجاجية فهشمها وجرح كفيه، سحبته من يده النازفة، وحاولت طيلة طريق العودة إلى البيت أن أشرح له المسألة ولكنه لم يقتنع. ودخلت معه في جدال لا ينتهي ولم يستوعب المسألة ولا أبعادها الاقتصادية ولا الفلسفية ولا الواقعية، وتمسك ببعدها العاطفي أو الإنساني أو بأشياء من هذا القبيل.
وحين أفرط الطفل في حزنه وزادت كآبته وغدا يميل إلى الصمت والعزلة وكثرة الإطراق والتأمل، خفت من مضاعفات حالته وحاولت جاهداً أن أخرجه من هذا المأزق النفسي، وأن أنسيه ذلك المشهد اللعين قبل أن يصاب بانهيار جسدي أو عقلي يصعب الشفاء منه. ولكن، لا السفر ولا الألعاب ولا حفلات الأطفال ولا المدرسة جعلته ينسى أو يتحسن أو يعود إلى طبيعته. واستشرت أهل العلم والخبرة في الأمر، فأشار على طبيب نفسي مسن أن أطلع الطفل على ملف الحصان، على تاريخه وحياته وأفعاله منذ ولادته حتى موته. وأن أوضح ذلك ببعض الصور إن وجدت، وأربط كل هذا بحياة الإنسان والحيوان والنبات من زاوية الوضع الطبيعي لمسيرة الحياة التي تبدأ وتمتد ثم تنتهي، وأدعم ذلك بأمثلة من مثل "كل من عليها فان" "وأن الموت حق" "وأنه نهاية كل حي" إلى غير ذلك. ويعتقد الطبيب أن الطفل سيربط المسألة تدريجيا بالواقع الذي يعيشه، والحقيقة التي يراها كل يوم، وشيئا فشيئا يتقبل الفكرة ويألفها ويتعايش معها، وبالتالي يعود إلى وضعه الطبيعي.
وعلى الرغم من شكوكي وتوجساتي من رؤية الطبيب ونصيحته بدأت بتنفيذ ما قاله بدقة وإصرار. وشرحت الأمر لأولي الأمر في الحكومة وقدموا كل مساعدة ممكنة وأطلعت الطفل على ملف الحصان وصوره وأعماله في كل مراحل حياته. وانسجم الطفل مع صورة للحصان وهو صغير يلعب في الحقل ويعود إلى أمه. ثم وهو يتسابق مع صغار الخيل ثم وهو يتسابق، في مرحلة تالية، مع خيول كثيرة... يتقدمها ويسبقها. ثم وهو يخترق مظاهرات عنيفة يمتطيه فارس مدجج، ثم منظر آخر والفارس يتسلم كأسا كبيراً لامعاً. وصورة أخرى وهو يصهل فوق رأس فارسه الجريح يطلب له المساعدة ويأبى أن يفارقه، وصورة وهو يطارد ذئاباً فتكت بأغنام الرعاة، وأخرى  وهو يصعد الجبال الوعرة ويهبط إلى الوديان الخطرة بحثاً عن عدو مختبيء أو وحش متربص أو لغم يهدد حياة الجنود أو الناس.
ومررنا على صور كثيرة للحصان، بعضها يتعلق بطعامه وشرابه ومكانه إقامته النظيف الواسع، وبعضها الآخر يتعلق بتدريباته وفحولته وأمجاده ثم انقطعت الصور عند هذه المرحلة، واقتصر الملف على ملاحظات قصيرة عبر السنوات التالية تشير إلى أن تقتصر أعمال الحصان على أمور بسيطة هامشية كالنقل والركوب وحمل الأمتعة، واستبداله بخيل نشطة شابة ذات دماء جديدة، ثم بالتالي وضعه في اسطبل الخيول العتيقة الهرمة، حيث اختلف الطعام والشراب والمكان والهواء والاهتمام. وأكملت للطفل من ذهني وخيالي أن الحصان بعد ذلك طعن في السن وانتهى أجله وطبق عليه القانون. وألمحت له أن تلك هي طبيعة الحياة، ولكل حي طبيعته وطريقة في النهاية التي يؤول إليها.
وتبعثر انسجام الطفل الذي بدا عليه قبل قليل حين كان يقلب صور الحصان وصولاته وجولاته. غاب صفاء وجهه حين انقطعت صور الحصان وفرسانه ووشاحاته. كنت أراقب ملامحه وانفعالاته وأحاول أن أقرأ فيها نجاح مهمتي أو فشلها، أقنع نفسي تارة بأن الطفل قد استوعب الأمر واقتنع وتخلص من أزمته ووجعه، ثم أتشكك في الأمر تارة أخرى  خشية أن يذهب كل هذا هباء وسدى. ولم أسكت طيلة الوقت، فقد كنت أوجه كل تعليق أو ملاحظة تتعلق بالحصان الوجهة التي أريدها والتي تخدم غرضي وخطتي وتصب بالتالي في نصيحة الطبيب لي، وكان يساورني في كثير من الأحيان إحساس بأني نجحت وأعدت الطفل إلى طفولته وحيويته ومرحه وخلصته من مأزقه ومرارته وانهياره المتزايد.
وفي الطريق إلى البيت ظل الطفل مطرقاً صامتاً، لم يتكلم ولم يرفع بصره عن الأرض، وقبل الدخول إلى البيت شحب وجهه فجأة وانهمرت الدموع من عينيه ثم قال بحدة:
لكن الجنود أطلقوا الرصاص على الحصان فقتل، وحدق بتجاعيد وجهي وظهري المقوس وشعري الأبيض ثم ركل الباب بقدمه بشدة فحطمه وحطم قدمه، وعدت إلى الحكاية من أولها.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــــ