الثلاثاء، 12 فبراير 2013

أبو رأسين


أنا الآن في الثلاثين من عمري، أحمل فوق كتفي رأسين منذ ولادتي، رأساً ميتة ورأساً أخرى حية. لم يكن بوسع الطب أن يخلصني من الرأس الميتة لثلاثين عاما خلت؛ بسبب خطورة ذلك على حياتي أو على الرأس الحية الملتصقة الملتحمة مع الرأس الأخرى. وهكذا عشت هذه السنوات الطويلة في وضع غريب وفي شكل عجيب، وقد درج الناس على تسميتي بـ: "أبو رأسين" ولا يكاد أحد يذكر اسمي الحقيقي.

في هذا اليوم تغيرت الأمور فجأة، فقد أحسست بصداع شديد يكاد يفجر رأسي – بالتأكيد الرأس الحية – وتزايد هذا الصداع إلى حد لم أعد أطيقه. ولم تجد نفعاً كل الأدوية التي تناولتها لتهدئة هذا الصداع أو إزالته. قال الأطباء أن سبب الصداع هو الرأس الميتة، فإذا استمر الصداع وتفاقم توجب علينا استئصال الرأس العاطلة عن العمل قبل أن تحدث انفجارا في المخ في الرأس السليمة، الأمر الذي يؤدي إلى الموت. وأضاف الأطباء أن هذه العملية الجراحية غير مضمونة النتائج وتزداد خطورتها بتقدم السن. ازداد الصداع صداعاً والوجع حدة في رأسي – بالتأكيد في الرأس الحية – ولم استطع اتخاذ قرار متأن متزن كما أني لم أجرؤ على المقامرة بحياتي وتسليم رأسي إلى متاهات الحظ وغرائب الصدف. وانتظرت على مضض وجمر كمن يمتحن أنفاسه الأخيرة في آخر الشوط. وهنا داهمتني فكرة غائمة فقلت للأطباء أن كان الصداع في الرأس الحية فلم تستأصلون الأخر!؟ وأضفت دون تركيز لا على كلماتي ولا على أفكاري: هل أظل على قيد الحياة لو تخلصتم من الرأس الحية التي تسبب الصداع وأبقيتم الرأس الميتة التي لا تؤلم ولا تتألم؟ دهش الأطباء وتبادلوا نظرات الاستغراب ثم قال أحدهم: قد تبقى على قيد الحياة بالرأس الميتة كما هو الأمر في الرأس الحية، لكننا نبحث عن علاج للداء الذي تسببه الرأس الميتة، كما أنك بحاجة إلى الرأس الحية لتحيا وتفكر وتحس وتحب وتكره وتقوم وتقعد.. وهكذا، أما إذا أبقينا على الرأس الميتة فقط فانك تصبح كآلة تتحرك دون تفكير. فالعقل في الرأس الحية والعاطفة في الرأس الحية وكذلك الإدراك والحدس والمشاعر والآمال والذكريات.. فقاطعت الطبيب بحدة مفاجئة وقد داهمتني فكرة أخرى غائمة وقلت: الذكريات.. هل الذكريات تعني الذاكرة؟ قال: نعم، بشكل أو بآخر. قلت مرهقا: اقطع اذن الرأس الحية. قال: نحن لن نقطع الرأس، نحن نستأصل الرأس الأخرى التي تسبب المرض والصداع. قلت بإصرار وقرف: استأصل الرأس الحية، وسأقر واعترف بأن هذه رغبتي. انني اعرف منكم بي. رد الطبيب محتداً: أننا اعرف بك منك. قلت: لا، وقال: لا. وبين (اللائين) ضاع القرار. تشاور الأطباء معا، وتصعد ألم الصداع في رأسي وانتابتني حالة من الغثيان والهلوسة والمرارة فأدركوا أن الأمر ما عاد يطاق وعليهم أن يجروا العملية على الفور وكان ذلك مرهونا بموافقتي. بذلوا كل ما باستطاعتهم لإقناعي  بالعلاج والشفاء والتخلص من الرأس الزائدة المعطلة الميتة ولكني أبيت وأصررت على رأي، يطارد خيالي شبح فرح بإلغاء ذاكرتي، كبر هذا الشبح فصغرت أمامه كل الخسارات التي يمكن أن تحدث عند استئصال الرأس الحية وتشبثت بنعمة غياب الذاكرة. قلت متعباً منهارا: هذا قراري الأخير، خلصوني من الرأس الحية. أذعن الأطباء للأمر مكرهين مستهجنين متلكئين كأنهم يساقون إلى الموت، قالوا هذا جنون ولكن لا بد منه قبل أن يموت الرجل. حقنت، خدرت ورحت في غيبوبة طويلة وبدأت مشارطهم ومقصاتهم وسكاكينهم تقص لحمي وتسلخ جلدي وتطحن عظامي وتقطع عروقي، وأكوام القطن تمتص الدماء الراعفة.. هذا يركلني وذاك يصفعني وآخر يحصد الرؤوس حصدا.. فتيان وفتيات يسقطون أرضا.. ينزفون.. يداسون جثث بالمئات.. وصوت الرعد.. وصوت البرق وصخب الإسعاف.. والولادة والإجهاض.. والصفير والنفير.. والعجين والخبيز والزيتون والتين.. والحرب والسلم.. وأم تخنق أولادها.. وبيوت تعرى سكانها.. البرق.. الرعد.. الذبح.. الحب.. الرعد.. العهر.. العمر.. العود.. هذا جدار من الوراء.. وهذي دماء من الإمام.. وهذا يبيعك ويشتريك من اليمين وذاك يتفرج على مسرحية دموية من الشمال.. تذكر.. تذكر.. امسح.. الذاكرة.. ثقيل هذا العبء ثقيل.. أيتها الرأس الآمنة الخالية الجوفاء.. لا أنت هنا.. ولا أنت هناك.. مرتاحة أنت.. ينقلب الكون رأسا على عقب.. تشتعل الدنيا أو تنطفىء.. لا أنت هنا ولا أنت هناك.. أنعمى. افرحي.. بلادتك بموتك.. محمولة أنت تطوفين معي عبر أزقة الكون المفجعة وأنت باردة كالثلج وأنا أغلي أشل انكسر.. خذي مكاني.. حلم أنت.. أنت حلمي أيتها الرأس الشكل الأجوف الميت.. أحسدك.. إني أحسدك وأنا ذو الرأسين.. وعيون الكون تتوزع بيني وبيني.. عين عليك وعين علي.. موزع أنا ما بين لهيب وعدم.. وأنت هذا العبء الذي أحمله من ألف عام.. احمل رأساً ميتة آمنة.. لا تشرف في الربيع ولا تغرب في الخريف.. ثقيل هذا العبء يا رأسي الأخرى.. أديرك نحو الشمس حين تسطع وأخفيك عن المطر حين يهمي.. أنت فوق الخيل وأنا تحتها.. أنت تشدين الحبل وأنا الحبل يطوق عنقي.. أيها الحمل فوق الكتفين المنهكين المهترئين أن لك أن تخف.. تنشطر.. تنزلق.. تذوب.. تتلاشى.. أن لك أيتها الرأس الحية أن تفارقيني.. أن تريحيني.. أن تنصريني عليك.. أنا الميتة سأبقى.. أنا الرأس الميتة سأبقى.. فإن قامت الدنيا لا اقوم وإن قعدت لا اقعد.. لا أصفو أن أشرقت الشمس ولا أشحب أن عربت.. لا أضحك بوجه الربيع ولا أعبس بوجه الخريف.. ابتعدي.. ابتعدي.. ابتعدي.. ابتعدي فابتعدت.

قال شاهد عيان أنه في اليوم التالي كان قد رأى الرجل (أبو رأسين) يسير هادئا في الشوارع وهو يحمل رأسا واحدة. ولم يستطع أحد أن يميز أو أن يقطع بالحكم فيما إذا كانت تلك الرأس الباقية هي الرأس الحية أو الميتة.

وقال شاهد عيان آخر وهو أحد الأطباء الذين أجروا العملية الجراحية للرجل إنهم لم ينفذوا طلبه بل قاموا باستئصال الرأس الميتة حسبما يقتضيه الواجب ولكن العملية فشلت ومات الرجل، فاجتهدوا في الرأي وقاموا باستئصال الرأس الحية تنفيذا لرغبته السابقة أو أملا في حدوث معجزة ما، ولكن الرجل مات مرتين.

وأقسم شاهد عيان ثالث أن الرجل المعروف بـ "أبو رأسين" الذي عاشرناه عمرا طويلا ونعرفه حق المعرفة لا يزال على قيد الحياة ولا يزال برأسيه ولا يزال يمارس طقوس حياته بشكل طبيعي كما عهدناه.
 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــ