الثلاثاء، 12 فبراير 2013

إخوة يوسف: إكرام الميت دفنه


... مات... وأخيراً مات، بعد طول انتظار واحتضار. مات بالأمس أخي الأكبر فأراح واستراح. فقد غزته الأمراض منذ سنوات... واكلته شيئاً فشيئاً وفتكت بجسده النحيل عضواً عضواً. وعلى الرغم من أننا كنا نعلّق عليه آمالاً كباراً في أمور شتى، إلا أن هذه الآمال بدأت بالتراجع والتلاشي والانهيار منذ دب المرض في أوصاله وشلّ قواه الجسدية والعقلية... ورحنا ننتظر معه الخلاص من هذا العذاب الذي لا ينقطع... ونطلب له الموت رحمة به وإشفاقاً عليه.
بالأمس استجاب الله لدعواتنا وانزل عليه رحمته بالموت وقلنا: قد استرد الله وديعته وأنقذه من الموت بالموت. خيم الحزن والأسى على أجواء البيت والأسرة، وانتشرت الكآبة على وجوه الأهل والأقارب والأصدقاء على الرغم مما نخفيه من مشاعر الارتياح والسرور لخلاصه من العذاب والمعاناة والتوجع. بعد ذلك قمنا بعمليات تكفين الميت وغسله والصلاة عليه ثم وضعناه في النعش ليقضي ليلته الأخيرة في البيت انتظاراً لليوم التالي لنحمله على الأكتاف ونقوم بدفنه دون أن ننتظر أكثر من ذلك حيث أن اكرام الميت دفنه.
في الليلة الماضية وجسد أخي مسجي في نعشه وفي غرفته، استقر رأي أفراد أسرتنا على دفنه دون أن ينزع خاتم زواجه من إصبعه أو تؤخذ ساعته من يده اكراماً  له وتجنباً لما قد تسببه هذه الممتلكات من ذكريات محزنة أو علامات شؤم. وكنت قد وافقت على مضض على هذا الرأي لأني كنت في داخلي أفكر بنزع الخاتم والساعة من يديه للاستفادة من ثمنهما وبخاصة أننا أسرة فقيرة وقد تسد هذه الأشياء حاجة من حاجاتنا. وبررت هذا الموقف بيني وبين نفسي بأن الحي أبقى من الميت وانه على الصعيد الفعلي لن يستفيد أخي من هذه الأشياء شيئاً، كما أن مثل هذه العادات التي ما يزال يؤمن بها كثيرون في مجتمعنا ليست مقنعه ولا معنى لها.
وبدأت أفكر بقلق وحرج وذعر كيف آخذ الخاتم والساعة من جثة أخي دون أن يراني احد كلص مرتبك تراقبه عشرات العيون. كان الناس في حزن وعزاء وهرج ومرج، يذكرون أيام المرحوم الماضية بأفراحها واتراحها وجمالها وبشاعتها، وأنا في عالم آخر... وفي اطراق عميق، يظنه الآخرون بسبب الحزن والمأساة، وأنا أتخير الوسيلة الأكثر أمناً للحصول على غنائمي.
وأخيراً استقر رأيي على التظاهر بالحزن العميق والدخول إلى غرفة الميت وقراءة الفاتحة على روحه الطاهرة  وإلقاء نظرة أخيرة أو قبل الأخيرة على جثمانه المسجى في ظلمة الليل وسكونه. قمت متثاقلاً مترنحاً مكتئباً واتجهت إلى الغرفة الصامتة منتظراً خلوّها من أي شخص يدخل لإلقاء نظرة الوداع أو قراءة الفاتحة أو ما شابه ذلك. وحين خلت الغرفة تماماً وبقيت وحدي مع الجثة اقتربت من النعش مذعوراً خائفاً ثم دسست يدي من فتحة الكفن وعيناي تستطلعان باب الغرفة وشبابيكها بهلع وارتجاف. كنت في حالة ذهول أو جنون أو خوف لم اشعر به في حياتي الماضية كلها، ومع ذلك صممت على المضي فيما أنا قادم من أجله. مددت يدي أكثر فأكثر أتلمس جسد أخي ماراً برأسه فكتفه فذراعه فرسغ يده ثم شعرت بيده تقبض فجأة على يدي بقوة واحكام، فانتفضت كالمجنون ثم تعوذت من الشيطان الرجيم واسترددت أنفاسي اللاهثة وعدت إلى توازني ووعيي ثم أعدت الكرة مرة أخرى  وأنا أدرك أن الخوف قد أخذ مني مأخذاً كبيراً... تحسست يد أخي فلم أجد الساعة مثلما لم أجد الخاتم في إصبعه... ذهلت... ولم اصدق... حاولت مرة أخرى  ثم بحثت في يده الأخرى  وفي قدميه والى جانبه وتحت رأسه وظهره وفي أماكن أخرى  فلم أجد شيئاً... ذهلت أكثر فأكثر... هل سبقني احد فأخذ أشياءه منه... من فعل ذلك... هذه دناءة ما بعدها دناءة... من جرؤ على فعل ذلك... وقبل أن يطول بي الحال سحبت يدي من داخل الكفن ومسحت على وجهي بيدي كمن اختتم قراءة الفاتحة... وعدت من حيث أتيت. كنت انظر في عيون الجالسين الحزينة لعلي اكشف السارق... ولكني لم استطع تحديد أحد أو حتى الشك بأحد... فلزمت الصمت والقلق والقهر والانتظار. ولم يكن بمقدوري التساؤل عن الأمر أو الإفصاح عنه أو البحث عن الفاعل خشية أن يشك احد بي أو ينكشف أمري، ولم أجد بداً من الانتظار فانتظرت ولم أجد بداً من التفكير بالمسألة فقضيت الليل كله مستيقظاً مطرقاً مفكراً حتى اليوم التالي.
بعد صلاة الظهر على الميت حملنا النعش إلى القبر وكنت قد قررت البحث عن الخاتم والساعة في أيدي المشيعين والمعزين وكل من سار في الجنازة أو حضر الدفن أو صلى أو حفر أو تفرّج أو مرّ صدفة في الطريق. وبعد الدفن عدنا جميعاً أفراداً وجماعات وفوجئت في تلك اللحظة وأنا أتفحص أيدي الناس وأصابعهم أن كل يد تقع عيني عليها تحمل ساعة تشبه ساعة أخي وان كل إصبع انظر إليها أجدها تلبس خاتماً مثل خاتم أخي. أغمضت عيني وفتحتهما عدة مرات خشية أن يكون كابوس قد داهمني أو حالة فزع قد انتابتني كتلك التي حدثت في الليلة الماضية، لكن المشهد لم يتغير... والحقيقة لم تتبدل... ففي كل يد ساعة كساعة أخي وفي كل إصبع خاتم كخاتم أخي... مع الأغراب والأصدقاء وكل أفراد الأسرة... هل يمكن أن يسرقه الجميع ميتاً مثلما سرقوه حياً... هل يمكن أن يعرّيه الجميع ميتاً... مثلما عرّوه حياً... وبلا وعي... وأنا شارد الذهن... زائغ البصر... وجدت يدي تتحسس يدي الأخرى... فأذهل حين تقع يدي على ساعة تشبه ساعة أخي تطوق يدي... وافزع حين تقع يدي على خاتم يشبه خاتم أخي يلتف حول إصبعي... ورحت اهذي وأتمتم دون وعي... هل يمكن أن نسرقه جميعاً ميتاً... مثلما... هل يمكن أن نعرّيه... مثلما هل يمكن ان... مثلما...مثـ...هـ... ولم أتوقف أبداً...



ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــ