الثلاثاء، 12 فبراير 2013

البقرة


اندفعت مع المندفعين وصحت مع الصائحين: أن بقرة أم عواد سقطت في البئر الواقع على طرف القرية الغربي. هب أهل القرية جميعاً للنجدة ولإنقاذ البقرة الحلوب التي تعيش على خيراتها أم عواد وأسرتها. وذهلت وأنا أركض لأداء واجبي وللإسهام بما أستطيع في هذه المحنة من وقفة أهل القرية التي بدت وقفة رجل واحد إلى جانب بقرة أم عواد. وخشيت أن تكون نتائج هذه الحماسة لدى الجماهير التي لبت النداء ذات مردود عكسي بصورة أو بأخرى، لكن هذه الوساوس طارت من رأسي حين أشرفت على طرف القرية ورأيت الناس يحيطون بالبئر، هذا يحمل حبلا وذاك يحمل سكينا وآخر يرفع إناء ضخماً، وآخرون يخلعون ملابسهم استعداداً للنزول في البئر.
حين وصلت ألقيت التحية فلم يسمع أحد، فكل مشغول بالكارثة، وكل يرى رأيا في أفضل السبل لإنقاذ البقرة العائمة في جوف البئر. أجمعت الآراء أولا على ربط أحد المتطوعين بحبل متين وإنزاله إلى البئر، على أن يقوم هو بربط يدي البقرة من الأعلى بإحكام، ثم يسحبها الناس بشكل رأسي ليسهل إخراجها من فوهة البئر. اعترض بعضهم في أول الأمر على هذه الطريقة، لكن الغلبة كانت للأكثرية، ثم اجمعوا على ذلك. قال الرجل من جوف البئر: شدوا الحبل، الوضع جاهز، وانبرت مجموعة من الناس الأقوياء وشدت الحبل إلى الأعلى بهدوء وحذر، فيما كانت أم عواد تصرخ باستمرار: تمهلوا... ارفعوا البقرة بحذر... إنها حياتي وحياة أسرتي حافظوا عليها، إنها مصدر رزقي ورزق أولادي. الناس يشدون الحبل ويرفعون البقرة المربوطة بإحكام حتى إذا ما اقترب رأسها من فوهة البئر اصطدمت يداها في جوانبه وأصبح من العسير إخراج جسدها كاملا.
شدوا قليلا... ارفعوا أكثر فأكثر، تناثرت الأصوات من كل جانب، وضاعف الممسكون بالحبل من جهدهم وشدوه أكثر فأكثر، وأم عواد تقول: همة أكثر، إياكم أن تسقط البقرة ثانية، والرجل الذي في جوف البئر يصرخ وهو خائف من سقوط البقرة على رأسه: الوضع أمان... الجسد سليم، ارفعوا البقرة شدوا بقوة وحزم، وشد الناس الحبل بأقصى ما ليدهم من قوة فتقطعت أوصال البقرة وعلقت يداها بالحبل فيما هوى جسدها إلى قاع البئر ثانية، وقد سقط الناس على ظهورهم حينما فصلت يدا البقرة عن جسدها، وسقط الجسد وبقيت اليدان معلقتين بالحبل المتين.
تجنب الرجل في جوف البئر سقوط البقرة عليه ثم قال: ارموا الحبل ثانية ففعلوا، وأعاد الكرة فربط رجلي البقرة بإحكام وقوة ثم صرخ: إن الوضع جاهز... شدوا الحبل، ففعلوا. وظهر ذيل البقرة هذه المرة من فوهة البئر وكان رأسها يتدلى إلى الأسفل، وكان ضرعها سليماً فشدوا بقوة أكثر فتمزقت الأوصال ثانية وسقطت البقرة في جوف البئر فيما بقيت الرجلان عالقتين في الحبل المتين الذي ربط بقوة وإحكام.
ازداد قلق الناس وخوفهم ودهشتهم لكنهم تشبثوا بسلامة ما تبقى من جسد البقرة الذي تذكرهم بها أم عواد طوال الوقت ويطمئنهم عليها الرجل الذي في جوف البئر، ويشد الناس الحبل فيقطعون رأسها ثم يهوي الرأس وما تبقى من جسدها إلى داخل البئر.
... الجسد وكذلك الذيل سليمان، صاح الرجل من أسفل البئر وهو يربط بطن البقرة بإحكام، وعند باب البئر تنقطع البقرة نصفين وتسقط قطعتين في جوف البئر... الذيل سليم... قال الرجل وهو يربط نصف البقرة الأمامي... فيرفعه الرجال ثم يسقط ثانية... ثم يسحبون نصف البقرة الخلفي فيسقط ثانية: ثم اهتدى الرجل إلى مسألة الذيل وقد أعيته المحاولات، فربطه بقوة وإحكام ونادى بالناس أن يشدوا الحبل، فشد هؤلاء بقوة فانقطع الذيل وبقي مربوطاً بالحبل بينما سقط ما تبقى من جسد البقرة في قاع البئر. وحين رأى الناس الذيل وقد أعيتهم المحاولة ولفهم اليأس همهموا ثم تلعثموا ثم أخيرا صرخوا: الحمد لله... الذيل سليم...الحمد لله الذيل سليم... واقتربت أم عواد... وصاحت الشكر لله... الذيل سليم... وارتفعت الأصوات مهنئة بسلامة ذيل البقرة... وعلت الأهازيج والأغنيات الفرحة المرحة... وتراجع الناس عن البئر يحملون ذيل البقرة إلى بيت أم عواد يغمرهم شعور البهجة والنصر... وخلا البئر وطرف القرية الغربي من الناس إلا من صوت الرجل الذي في جوف البئر... يصرخ مخنوقاً بالماء والدماء والحليب والبول... شدوا الحبل... ارفعوني... شدوا الحبل، لكن صوته خبا شيئاً فشيئاً... وأطبق الصمت على المكان.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــ