الثلاثاء، 12 فبراير 2013

البحث عن قطعة صابون


نزلنا من القطار قبل قليل في محطة في وسط المدينة الكبيرة. كانت الرحلة طويلة وشاقة، وهي رحلة يومية من البيت إلى مكان العمل ومن العمل إلى البيت. موقع عملنا خارج المدينة، نركب القطار في الذهاب والعودة. يخترق القطار مناطق صحراوية مغبرة تترك على أجسادنا لزوجة تتكون بفعل غبار الصحراء والعرق المتصبب بفعل الحرارة سواء كان ذلك في أثناء الرحلة أو في العمل. نصل إلى البيت متعبين، متسخين جائعين أول ما نفعله الاغتسال والاستحمام من الأوساخ والغبار والعرق، واللزوجة، بعد ذلك نأكل ما تيسر من الطعام ثم نسترخي قليلا طلبا للراحة بعد يوم شاق طويل مضن. هذا هو برنامجنا اليومي بشكل عام.
في هذا اليوم اختلف الأمر، فقد نزلنا قبل قليل في محطة القطار الواقعة في وسط المدينة، واتجهنا إلى البيت، وفي الطريق توقفنا عند إحدى البقالات على عادتنا لشراء شيء من الطعام وقطعة صابون. ابتعنا الطعام وعندما سألنا البائع عن قطعة صابون نظر إلينا مندهشا خائفا ثم قال بتردد: لا يوجد صابون. بدا تصرف البائع غريباً وكذلك ملامحه عندما سألناه عن الصابون ولكننا لم نفكر طويلاً في الأمر ومضينا إلى محل آخر، ثم تقدمت الأصدقاء وسألت:
قطعة صابون، من فضلك.
حملق البائع بي تعلوه دهشة وتفاجؤ، شعرت أنه يرثي لحالنا ولشكلنا المغبر المتسخ وللرائحة الكريهة المنبعثة من أسادنا اللزجة، ولكنه قال بقلق:
لا يوجد عندي صابون، المعذرة، ثم لا تتعبوا أنفسكم بالبحث عن قطعة صابون فلا أظن أنكم ستعثرون على واحدة مطلقا.
ماذا !! قلت بدهشة وعدم تصديق، ثم استدرت إلى الصحب وقلت بحيرة:
ماذا يقول هذا الرجل !! ما الذي يقصده، ثم ما الذي يعنيه خوف الأول واستغرابه، هذا أمر مضحك، دعونا نبحث في مكان آخر، فحالتنا كما ترون مزرية مقرفة.
مضينا جميعا صامتين مطرقين حائرين، لعل في الأمر شيئاً. هل يعقل أن يختفي الصابون من البلد !! وإذا حدث هذا فعلا فكيف يصبح حالنا.. كيف نطيق أنفسنا، كيف يطيقنا الآخرون.. هذا لا يعقل ولا داعي للاسترسال في أفكار السوء والتشاؤم هذه. توقفنا عند بقالة واسعة ضخمة ثم كررنا الطلب بقلق وتوجس وترقب، فرد البائع على الفور.
- لا يوجد صابون، ثم استدرك، كما أنه لا توجد قطعة واحدة في المدينة كلها.
سألنا عشرات المحال والبقالات المتناثرة على جانبي الطريق ونحن نتجه إلى البيت وكانت الردود كلها واحدة: لا يوجد صابون. هذا الأمر غريب.. ماذا حدث. سألنا كثيرين عن السبب في اختفاء الصابون ولم يجب أحد، ربما لم يكن أحد يعرف سبب ذلك. تحاورنا وتجادلنا حول المسألة، وقدمنا تفسيرات وتأويلات مختلفة وضربنا أخماسا بأسداس دون أن نصل إلى تعليل لهذه الظاهرة الغربية اللامعقولة.
وبعد يأس اقترح أحدنا أن نتفرق ونتوزع كل في شارع أو حي من أحياء المدينة كلها نبحث عن قطعة صابون ونلتقي جميعا في البيت. ومضينا كل في جهة نسأل في البقالات والدكاكين ومحلات بيع الأقمشة والأحذية والملابس والعطور والأشرطة ودور السينما والمسارح والمطاعم والصيدليات والمكتبات والجامعات والملاهي والمدارس والسفارات وأماكن الدعارة والقطارات والأزقة وبيوت الناس.. دون جدوى، لم نعثر على قطعة صابون واحدة.
هل تغير اسم الصابون.. هل استبدل بمادة أخرى أفضل منه، هل هناك أزمة في انتاجه، هل أغلقت مصانعة، هل منع لسبب لا نعرفه.. أسئلة تدور في الذهن كالطنين كالصفير كالضجيج. عدنا جميعا إلى البيت بخفي حنين، قال أحدنا:
- لا أريد الاغتسال، أبقى مثل غيري.
أضاف آخر.
- نكتفي بالماء، حتى تنجلي الأمور.
قلت:
المشكلة الآن أكبر من مجرد الاغتسال، المشكلة في هذه الظاهرة الغريبة نفسها. هناك أمر ما، خلل ما، قصة ما وراء هذه المحنة، وعلينا أن نفهم، أن نعرف ما الذي حدث، كيف ولماذا. فالمدينة كلها خالية من الصابون، وهذا يعني أن الناس جميعاً لا نحن فقط، يعانون من الأزمة نفسها، فإذا كان الناس جميعاً لا يملكون الصابون ولا يعرفون سبب اختفائه فهم مثلنا في حيرتهم وجنونهم وقذارتهم وأوساخهم وروائحهم الكريهة، تلك هي المسألة التي تحتاج إلى حل لاجتياز المحنة.
مرت عدة أيام ولم يتغير شيء، الناس صامتون.. الأمور تسير دون ضجر أو صخب أو تبرم.. كأن الأمر طبيعي، كأن المسألة لا تستوقف أحداً، وكنا نحن في شغل شاغل وفي قلق دائم، مع أننا لم نكن الأكثر اتساخا أو قذارة أو ضررا، واقترح أحدنا أوقد بدا أنه ما عاد يطيق نفسه قائلا:
- نهاجر.. نترك المدينة كلها قبل أن يقتلنا العفن أحياء.
فرد آخر:
- هل تضمن أن تحل المشكلة في مكان آخر، ثم كيف تضمن أن تجد صابونا في مدينة أخرى أو قرية أخرى.
قلت مقاطعا وقد داهمتني فكرة مفاجئة:
ما رأيكم لو نصنع صابونا.. نعم.. نعم.. نعم.. لماذا لا نصنع صابونا بأنفسنا.
صمت الأصدقاء قليلا، وبدت الفكرة معقولة، فقال واحد:
- وإذا كان ذلك ممنوعا؟
فرد آخر:
لا تكن متشائما إلى هذا الحد، دعونا نبدأ.
وفي اليوم التالي ذهبنا إلى المدينة لشراء المواد الخام لصناعة الصابون فشاهدنا جماهير غفيرة تتجمع في الأسواق وتنطلق في شوارع المدينة العريضة صارخة صاخبة تطالب بتوفير الصابون للناس. انضممنا إلى الحشود سرنا مع السائرين وصرخنا مع الصارخين واختلطنا مع الصغار والكبار والسيارات والحيوانات والأزهار والأحجار والدخان والأحياء والأموات.
قال شاهد عيان إن ثلاثة من الذين اتفقوا على صناعة الصابون بأنفسهم قد فقدوا أو اختفوا ولم يحضروا إلى المكان أو الموعد المحددين. والثلاثة هم: المكلف بإحضار المواد الخام والمكلف بإحضار طريقة صنع الصابون ثم المكلف بتوفير المكان المناسب للبدء في العمل.
وقال شاهد عيان آخـر يعتقد أنه مدير منظمة الصحة العالمية، قال أنه تسلم برقيات عديدة من مختلف بقاع العالم تستفسر وتستهجن وتطالب بتوفير الصابون للناس أو رفع القضية لمجلس الأمن أو اليونسكو أو الأمم المتحدة أو إدراجها على جدول أعمال مؤتمر العمالقة.
وقال شاهد عيان ثالث أنه لدى تفتيش الكثيرين مما اعتقلوا أو اشتبه بهم أو جرحوا أو قتلوا أو فروا أو اختفوا، عثر في جيوب كثير منهم أو في حقائبهم على قطع صابون مختلفة الألوان والاحجام، كثير منها لم يستعمل بعد.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــ