الثلاثاء، 12 فبراير 2013

ولكن شُبه لهم

 
... انتظرتني حبيبتي عشرة أعوام عجاف... عانينا فيها الغربة والفراق والخلافات الأسرية ومرارت الواقع... مرت تلك السنوات بين يأس كاد أن يدمرنا.. إذ نصل إلى حافة الانهيار حينا، ثم نتشبث بالأمل والحياة وحلم اللقاء حينا آخر، وبين أمل يرسم نهاية مفرحة لقصة حب عظيمة لا بد أن تعبر بر الأمان وتتوج بالزواج والأسرة...
حين أنهينا الدراسة الجامعية تبادلنا الوعد والعهد بالانتظار مهما طال الزمن حتى يتحقق اللقاء، وكنا ندرك أننا سنواجه عثرات وصعوبات وانهيارات... ولكن لا بد من الصمود والصبر والنجاح. وكان لنا ما أردنا بعد عمر طويل من العناء والاغتراب واليأس.
وتنقضي السنوات العشر العجاف، ويتوج هذا الكفاح بالفرحة الكبرى، فاليوم هو يوم عرسنا، ولا بد أن تنطوي صفحات العذاب السابقة ونعدها ثمنا لهذا الفرح العظيم ودرسا في الصبر والتشبث في الحلم دون قنوط أو كسل.
هذه ليلة العرس إذن، مرت الأيام الثلاث السابقة بضجيجها وأهازيجها وسهراتها بسلام وأمان، وفي هذه الليلة، وقد زفت إلي حبيبتي عروسا ورفيقا وحلما طال انتظاره، وبعد أن انفض الناس، وخلونا إلى أنفسنا وليلتنا في بيتنا الصغير، وعانقت عروسي عناقا طويلا لينفض عنا عناء السنين وتعب الأيام كمن يتشبث بحلم يخشى عليه من الضياع أو من الاستيقاظ فجأة فيراه قد تلاشى.
في تلك اللحظة من العناق الطويل أحسست بأصابع غريبة تنقر على كتفي... لم أكترث في أول الأمر لكن الأصابع ازدادت حدة وضربا فلم استطع تجاهل الحكاية أكثر من ذلك، نظرت خلفي استطلع وجه ضيف في غير موعده أو زائر في أحرج وقت وفي غير زمانه ومكانه. ذهلت من زائر الليل وتجمدت في مكاني وراح العناق الحار يفتر شيئا فشيئا حتى انفصلت تماما عن عروسي التي أفاقت من أحلامها واتجهت عيوننا نحو ضيف غير مرغوب فيه لا في هذه اللحظة ولا في لحظة غيرها أبدا. ولم نحتج لوقت طويل للتعرف على هذا الضيف المقيت، فقد كان ملك الموت، وفهمت من عينيه وإشاراته أن أجلي قد انتهى وأنّ المصير المحتوم قد اقترب وانه لابد أن يقبض روحي، فالموت حق والأجل قد انتهى.
في هذه اللحظة وبعد أن خفت لحظات الدهشة الأولى، ظللت لفترة أخرى بين مصدق ومكذب، فسيرة عزرائيل تثير الرعب والهلع في كل وقت، فكيف يكون الأمر وهو ينتصب أمامي كعمود جامد أو شبح مخيف في أسوأ توقيت من مراحل العمر. ولم تنفع معه كل توسلاتي وتوسلات عروسي. ولم تجد كل الدموع المنسكبة والزفرات الحارة في ثنيه عما قدم من أجله. وشعرت بالحزن والنقمة واليأس والجنون... أبعد عمر محاصر بالألم والموت والانتظار.. وفي لحظة فرحتي الوحيدة... يفاجئني الموت ليحرمني ويحرم عروسي منها... هناك خطأ ما لابد، فأنا لم أطو بعد أحزان السنوات العجاف. وأومأت إليه مستعطفا فأنا لم أفرح ذات يوم... وأنا لم أبدأ الرحلة بعد... وأنا وأنا.. وهي.. وهي.. ولكن إشارته بقبض الروح كانت واضحة قاطعة.. وملامح وجهه المتجهمة.. وقسوة عينيه أخرست لساني وشلت تفكيري وأغلقت أمامي أي أمل بالنجاة أو بالحياة ولو لدقائق معدودات.
نظرت إلى عروسي وقد انهارت بثوب فرحها الأبيض وتهاوت فوق سريرها الأنيق، ونظرت ثانية إلى ملك الموت العابس الغاضب كأنه يوحي إلي أنه انتظر أكثر مما يجب وأن علي أن استسلم لقدري وأن صبره قد نفد تماما. وأدركت في هذه اللحظة وقد تقدم خطوة أخرى نحوي أن الأمر انتهى، وأن روحي ستصعد إلى باريها بعد لحظات. لكني في قرارة نفسي لا أريد أن أموت. أو على الأقل، ليس في هذا اليوم.. أو في هذه اللحظة. وكررت في أعماقي: أنني لا أريد أن أموت. واهتزت في أعماقي مشاعر غضب كامن لسنوات طويلة وانفجرت مرارات عمر كامل متراكمة في داخلي... تمالكت قواي... ونفضت عني حبال الخوف والاضطراب والارتباك وهجمت بغتة على ملك الموت وانشبت أظافر قهري المتراكم عبر السنين في وجهه... فانشب أظافره وأسنانه وأشباحه في جسدي.. ودارت معركة حامية شرسة طويلة فيما بيننا... وأنا لا أريد الموت الآن.. وكنت كلما أشعر بالهزيمة والانهيار... أردد بوعي أو دون وعي:... ليس الآن... ليس الآن.. وأزداد إصرارا على المقاومة.. أرى الدماء تترف والجراح تتسع وأزداد مقاومة وهجوما.. وفجأة طرحته أرضا..وتضاعفت قوتي حين رأيت ملك الموت يتهاوى أمامي ويسقط أرضا... فهجمت ثانية... وانقضضت فوقه أخنقه.. ولم أنهض إلا حين تأكدت أنه قد غدا جثة هامدة.. وصرخت بأعلى صوتي وأنا أتقدم نحو عروسي المنهارة: لقد انتصرت عليه... لقد قتلت ملك الموت... فدبت الروح فيها ثانية.. وهبت واقفة.. وهجمت علي تواصل العناق.. وتواصل العناق حارا.....


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــ