الثلاثاء، 12 فبراير 2013

انتحار علني

 
نشــرت الجريــدة الرسميــة الصــادرة فــي صبــاح هـذا اليــوم، السبت بتاريخ 1/4/1988 الإعلان/ النبأ التالي بخط كبير وعلى الصفحة الأولى:

"أعلن أنا المدعو فلان بن فلان.. الخ، انني سأقدم على الانتحار ظهر هذا اليوم، السبت الموافق 1/4/1988م.

أرجو حضوركم في الموعد والمكان المحددين أدناه:

المكان: الساحة العامة/ الشارع الرئيسي/ وسط العاصمة.

الزمان: الثانية عشرة ظهرا.

ملاحظة هامة: أسباب الانتحار تعلن في حينها.

للاعتذار عن الحضور يرجى الاتصال بهاتف 198841.

التوقيع

فلان بن فلان بن فلان.. الخ

دهشت كما دهش غيري لغرابة هذا الإعلان. حادثت بعض الأصدقاء بهذا الشأن، ناقشنا الأمر وقلبناه على عدة وجوه فتباينت وجهات النظر وتشعبت، فمن قائل إنها مداعبة نيسانية بمناسبة يوم الكذب العالمي، ومن قائل أن الأمر لا يخلو من شيء ما، فالصحف لا تنشر تعميماً على نحو كهذا على الرغم من هذه المناسبة المتعارف عليها. وأضاف آخر، لا بد أنها محاولة تجارية رخيصة لابتزاز الناس من خلال بيع آلاف النسخ من هذه الصحيفة. قلت وأنا موزع بين المكذبين والمصدقين: على أية حال لن نخسر شيئا إذا ذهبنا إلى المكان في الموعد المحدد لنقطع الشك باليقين، فان حدث شيء كسبنا مشاهدة هذا العرض المثير الغريب وفي ذات الوقت تجنبنا مشاعر الندم والحسرة لو فوتنا مثل هذه الفرصة، وإن لم يحدث شيء فلا ضير في ذلك، فخيبة أو مقلب من آلاف الخيبات التي تداهمنا باستمرار.

ما بين متحمس ومعارض وما بين آخذ وراد سرنا نحو المكان المحدد نقدم أرجلا ونؤخر أخر حتى لاحت لنا الساحة العامة من بعيد فكانت تغص بالحشود من الناس، نساء ورجالاً صغاراً وكهولاً. ازدادت دهشتنا وازداد اضطرابنا وأسرعنا بالسير وكان ازدحام الناس واكتظاظهم قد حول المسألة إلي يقين، وشعر المكذبون من جماعتنا أن الأمر قد لا يكون خداعاً أو زيفاً كما ظنوا من قبل، فلا يعقل أن تجتمع هذه الجماهير الغفيرة ما لم تكن على علم بالأمر، وأن تجتمع هذه الجماهير الغفيرة ما لم تكن على علم بالأمر، وان قصة الانتحار العلني هذه حقيقة ومنتظرة. وصلنا الشارع الرئيسي العريض وتسللنا بصعوبة بين الحشود لنقترب من الساحة العامة ولتتسنى لنا رؤية ما سيحدث بوضوح ودقة. شاهدنا رجال الأمن موزعين في كل مكان وكانت سيارات الإسعاف على أتم استعداد فأدركنا أن المسألة قد أخذت مأخذ الجد وأن رجال الأمن والإسعاف والأطباء قد احتاطوا للأمر وجهزوا أنفسهم واستعدوا لمنع الرجل من تنفيذ مهمته الجنونية. وأحاط رجال الأمن بالساحة العامة كلها وتركوا بعض المنافذ الضيقة التي تسمح للرجل المنتظر القادم بالدخول منها إلى الداخل للامساك به وإيقافه عن تنفيذ هذه الفعلة الشنيعة الفاضحة، دفع رجل إلى بؤرة الساحة بسبب الازدحام فهجمت عليه قوات الأمن واعتقلته وفتشته بحذر ودقة فلم يعثر معه على شيء يهدد حياته فأبعدوه عن المكان وطلبوا من الناس عدم الدخول إلى هذه المنطقة لأنهم بانتظار إلى وسط الساحة بحيث يستطيعون في اللحظة التي يقترب فلان بن فلان بن فلان.. الخ لمنعه من تنفيذ تهديده. التزم الناس بالأمر ما استطاعوا لكن الزحام كان شديداً فاندفع رجل بسبب الزحمة إلى وسط الساحة مرة أخرى واندفع نحوه رجال الأمن فأدركوا أنه الرجل نفسه الذي أبعدوه قبل قليل، فحذروه من الاقتراب لكنه قال أنه لديه معلومات تتعلق بأمر الرجل الذي سينتحر وعليه أن يفضي بها إلى الناس لكي تنتهي هذه المهزلة ويذهب كل إلى سبيله.سأله ضابط بلهجة شديدة: أجاد أنت فيما تقول؟ وهل ستعلن عن زيف ذلك الإعلان وبطلانه ليرتاح الناس ويمضي كل في طريقه؟ قال الرجل: نعم فأردف الضابط: فتشوه بعناية ودعوه يمضي إلى غايته فلعل هذه الأزمة تنتهي ولعلنا نستيقظ من هذا الكابوس المرعب.

مضى الرجل إلى وسط الساحة الكبيرة واعتلى سوراً حجرياً قصيراً يحيط بحديقة صغيرة مليئة بالأزهار والنباتات الملونة. انتصب الرجل في وقفته فوق السور فاتجهت الأبصار نحوه وهدأ الضجيج وساد صمت مشوب بالتوجس. قال الرجل بصوت مرتفع: أنا فلان بن فلان بن فلان.. الخ، فانقض رجال الأمن عليه لكن الضابط نهرهم صارخا اتركوه.. اتركوه يكمل حديثه فلا خوف عليه، أنه لا يحمل شيئا على الإطلاق، تراجعوا إلى الوراء في حين راح الرجل يتحدث بأعلى صوته: إني قد دعوتكم هنا لأمر هام وهو أمر انتحاري. لم يعتذر أحد هاتفيا وهذا أفرحني، كما أن حضوركم المذهل هذا أسعدني.. خلع الرجل حذاءه.. شك رجال الأمن بالأمر لكنه قذف بالحذاء فوق الرؤوس المكتظة وتابع الحديث وسط دهشة وهمهمهة الحشود.. أما وقد وعدتكم وأتيتم انتم وأتيت أنا.. خلع الرجل نظارته ورمى بها بعيداً فوق الرؤوس.. فإنني أرى الأمر أصبح في حيز.. خلع الرجل كفه اليسرى وقذف بها نحو الناس.. في حيز التنفيذ.. خلع الرجل ساقه اليمنى وطوح بها بعيداً فوق الرؤوس.. ولأن الأمر في حيز التنفيذ.. خلع الرجل ذراعه الأيسر ورمى به.. فانني سأقول كلمتي.. خلع الرجل أنفه وأسنانه وتفاحة آدمه.. ورمى بها.. تسمر رجال الأمن في أماكنهم.. ذهل الناس وهم يردون عن رؤوسهم ووجوههم الأشياء التي يقذفها الرجل الغريب الأسطوري. وما أريد أن أقوله.. خلع الرجل فروة رأسه وأذنيه وعينيه وفخذيه وعضويه وكتفيه ونثرها فوق الحشود.. اغنموا هذه التركة.. اغنموها.. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا.. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه نيئا.. أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه مشوياً.. كلوه.. كلوه.. فقد فعلتم أكثر من مرة.. وتفعلون.. وستفعلون.. كلوه.. تقاسموا هذا الإرث.. تقاسموه.. تقاسموه.. كانت أعضاء الرجل ترتطم بأعضائنا.. بأجسادنا كالمطر الصاخب.. وسقطت فوق رؤوسنا رئات وقلوب وحناجر والسنة وأمعاء ومثانات وعظام وسموم ودماء وعروق وهموم وأحقاد وأصوات كلمات.. كأنها الشرر.. كأنها الحجارة.. كأنها الصواعق فتناثر القوم وتزاحموا وتراكموا.. هذا يفر من عينين وذاك يفر من أذنين وآخر يلوذ بقدمين وغيره يتفادى الأصابع والأظافر والأسنان وغيره يتعثر بعروق وجلود وعظام وآخر ينزلق بفعل الدم الأحمر والماء الأبيض والبول الأصفر والأخضر.. وبدت الحشود متطاحنة متناثرة متساقطة.. لاحت منا نظرة عجلى على بقايا الرجل فلم نبصر منه سوى جمجمة تنقلب وتتنطط كالكرة المطاطية سرعان ما داهمتها الجماهير المتشابكة بشكل هيستيري وتناولتها وراحت الجمجمة المتقلبة تتحرك وتتطاير فوق الرؤوس والاكتاف وتنتقل بين أيدي الحشود المتلاحمة المرتفعة الملوحة المتشابكة الفارة المذعورة الهاربة في كل اتجاه.. تنتقل ككرة فوق الرؤوس دون توقف.

قال شاهد عيان أنه في طريق عودته إلى البيت هارباً من المعمعمة وجد نفسه يركض بعشر أرجل ويرى بخمس عشرة عيناً ويسمع بعشرين أذنا ويحمل خمسا وعشرين جمجمة ويلبس ثلاثين حذاء.

وقال شاهد عيان آخر أنه عندما قذفته الحشود المتصارعة المتصادمة المتراكلة بعيدا عن ساحة المعركة ووجد نفسه ملقى على رصيف منزو لم يعثر على ذراعيه أو رجليه أو رئتيه كما أنه لم يجد أثراً لأنفه أو حنجرته أو أعضائه التناسلية أو حذائه.

وأضاف شاهد عيان ثالث قائلاً: أنا المدعو فلان بن فلان بن فلان.. الخ، أعلن انني سأقدم على الانتحار في العام القادم، في المكان نفسه وفي التاريخ نفسه في 1/4/1989 أرجو حضوركم مع الشكر والتقدير.
 

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ـــــــــــــــــــــــــــ