الثلاثاء، 12 فبراير 2013

الغربان

 
استيقظت مبكرا هذا الصباح،فاليوم هو أوّل أيّام المدرسة بعد انقضاء إجازة العيد التي قضيناها في مرح وفرح وزيارة الأقارب والأصدقاء. شعرت بنشاط وشوق إلى المدرسة، اغتسلت وأفطرت وارتديت الزيّ المدرسي، وقبل أن أنطلق إلى المدرسة ألقيت نظرة سريعة على العصفورين الجميلين اللذين يزقزقان في قفصهما الصغير منذ الفجر،نثرت لهما قليلا من الحبوب، وسكبت لهما قليلا من الماء، وأوصيت والدتي أن ترعاهما في أثناء غيابي، وخرجت مسرعا لألحق جرس المدرسة.
انطلقت إلى المدرسة القريبة سيرا على الأقدام، حقيبتي فوق ظهري وذهني شارد في لقاء أصدقاء المدرسة وبعض الأساتذة الذين أحبّهم وملابس العيد الجديدة وحصّة الألعاب... وفجأة لفت انتباهي وأوقف شرودي غراب مرّ من أمامي مسرعا، احتكّ بطرف حقيبتي ثم استقرّ فوق غصن شجرة خضراء على جانب الطريق.
تابعت سيري ولاحقت الغراب بعينيّ، وقد نسيت ما كنت أفكر فيه، فرأيت عدة غربان تحطّ على الشجرة التي استقرّ فوقها الغراب، وكانت تطير من غصن إلى غصن وتخدش بأجنحتها المارّة، صغارا وكبارا0وعلى الفور تناولت حجرا وقذفت به الغربان بشكل عفوي غاضب، فالغربان في أذهاننا نذير شؤم وخراب تقاوم أنّى وجدت. وما أن ألقيت حجري الغاضب نحو الغربان حتى صرخ بي أحد رجال الشرطة ألاّ أفعل ذلك وإلاّ تعرّضت للعقاب.. ثم أوقف سائق سيارته وصرخ بي قائلا: هل جننت،فقد منع التعرّض للغربان بعد اليوم.
ولم أفهم شيئا في أوّل الأمر، وتابعت طريقي ذاهلا مهموما حائرا،فما الذي يقصدونه بعدم التعرّض للغربان بالأذى، وهي الأذى نفسه؟ فكتمت خوفاً وقلقاً، ومضيت في طريق المدرسة وأنا أرى الغربان تنتشر على جانبي الطريق، وفوق المباني والأشجار دون اكتراث بأحد. هممت ثانية، وقد أخذني الانفعال والقهر، بإلقاء حجر على الغربان، ولكني أوجست خيفة وانتظرت حتى أفهم المسألة بشكل أوضح.
وأطرقت وفكرت،فقد اعتدنا دائما أن نطرد الغربان حين تقترب من حيّنا أو حقلنا أو بيوتنا، ثم سألت أحد المارّة، وعيني تحدّق في حجر فوق الأرض وأتردد في التقاطه:
أليست هذه الطيور السوداء غرباناً؟
فقال: بلى 
قلت:ألا تشاركني الرأي في قذفها بالحجارة لإبعادها عن طريقنا وحيّنا؟
فقال:لا، ألست في هذه الدنيا...
هذا أمر ممنوع، وقد صدرت تعليمات مشدّدة في هذا الشأن تمنع التعرّض للغربان؛ لأن العداوة معها وهمية ولا مبرّر لها.
أصبت بالذهول ثانية وثالثة، ومضيت في طريقي مطرقا مطأطيء الرأس أضرب أخماسا بأسداس حتى وصلت باب المدرسة، فإذا الغربان تنتشر بكثافة فوق أسوارها ومبانيها وممراّتها، وكنت عاجزا خائفا لا أقوى على فعل أيّ شيء.
وقفت في طابور الصباح، وردّدت مع الطلاب نشيد الوطن والمدرسة ثم دخلنا غرفة الصف، وبدأت الحصة الأولى وعيني زائغة تراقب الغربان التي تسرح، وتمرح على شبابيك قاعة الصف، وتطير بحرية من مكان إلى مكان، تحفّ بأجنحتها كتب الطلبة ورؤوس المدرّسين وأبواب القاعات الصفية وأعلام المدرسة.
انتهت الحصة الأولى فالثانية فالأخيرة.. من دون أن يطرح موضوع الغربان، فقد خيّم الصمت والخوف والقلق على الجميع، وكأنّ هناك اتفاقا غير معلن بمنع فتح الموضوع من قريب أو  بعيد في المدرسة.
انتهى دوام المدرسة، وعدت إلى البيت مثلما جئت، سيرا على الأقدام، مطرقا قلقا مطأطيء الرأس،أصدّ بيدي الغربان التي تتطاير من أمامي وخلفي، وتخدش جسدي وكتبي بأجنحتها الخشنة، ولا أقوى على قذفها بالحجارة مثلما كنت أفعل سابقا.
وأخيراً وصلت إلى البيت، وعلامات التوتر والخوف ظاهرة على وجهي ولساني، وكان أفراد أسرتي قد تجمعوا بانتظاري والقلق نفسه قد خيّم على الجميع. وقبل أن أسرد عليهم حكاية الغربان الغريبة وكوابيسها المخيفة لمحت دموعا غزيرة تنهمر من عينيّ والدتي وهي تنظر إلى القفص الذي يحوي عصفوريّ الجميلين، نظرت إلى القفص وقد أقلقتني دموع أمي، وأخافني وجوم الأهل جميعا، وكانت صدمتي صاعقة حين رأيت غرابين أسودين في القفص، ولم أر أثرا للعصفورين.

 
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــ