الثلاثاء، 12 فبراير 2013

حوار: سلامة الشطناوي (1)

 
ضيف هذه الحلقة من ملف القصة القصيرة القاص د. أحمد الزعبي، وهو أحد المخلصين إلى الإبداع لا من خلال تميز كتاباته ونظرته الإنسانية العميقة والعربية الأصيلة فقط بل ومن خلال آرائه الصريحة وتواضعه اللامحدود أمام هاجس رائع يسمى الإبداع. إن الخصوصية والنكهة المتميزة في قصصه تشير إلى فنية قصصية مختلفة فمنذ أول وثاني قراءة يتحدد لك صوته القصصي وتتبين لك ملامح الدهشة والسؤال والجمهور العريض ليتركك تشكل القصة معه وفق معمار ومضمون لا تختلف معه فيه. حول قضايا القصة القصيرة في الأردن والظواهر اللافتة للانتباه في قصصه كان لنا معه هذا الحوار:
ـ هناك من يذهب إلى أن القصة تعبير عن حالة وعي حادة، منبثقة من التوتر القائم بين الأنا والآخر، الذات والموضوع، ما رأيك بذلك؟ وهل نستطيع القول أن د. أحمد الزعبي موجود في قصصه من خلال ما يعانية الأبطال من الدهشة والاستغراب والبحث عن الذات أم أن هذا مجرد انعكاس لنماذج إنسانية أخرى؟
الفن عموما تعبير عن حالة الوعي الحادة التي تجتاح الإنسان وتحدث هذا التوتر القائم ما بين الإنسان والعالم أو العالم الداخلي والعالم الخارجي. وهي حالة تشكيل الرؤية التي تطرح البعدين الأزليين للفن: بعد ما هو كائن – الخارج – وما يجب أن يكون- الداخل- كما يراه الفنان أو يطمح إليه.
أما أني موجود فيما أكتب، فهذا بالتأكيد يحدث، أما وجود الآخرين أو النماذج الإنسانية الأخرى فهذا طبيعي وأساسي أيضا.
ـ وهل حققت من خلال هؤلاء الأبطال شيئا تسعى إليه أم ما يزال البحث مستمرا؟
لا لم يتحقق شيء، ويبدو أن الأدب بشكل عام لم يعد يحقق أشياء تذكر في هذا العصر لتراجعه إلى الصفوف الخلفية من اهتمامات الناس، وأسباب ذلك كثيرة ومعروفة.
ـ حالة الفوضى التي تعيشها جماهير قصصك،ووجود هذه الجماهير بشكل لافت للانتباه في معظم القصص.. لماذا؟
هذا تجسيد لعصر فوضوي متشابك متصارع من ناحية، ورصد لردود الأفعال الغوغائية التي تقوم بها الجماهير تجاه قضايا الساعة والأحداث المفاجئة من ناحية أخرى، وهذا تفسيري الخاطف كقارئ.
ـ تكاد اللغة المكثفة في قصصك أن تكون بطلاً.. فهل تنظر للغة على أنها مجرد أداة للعمل الفني؟ وهل المهم إبراز فكرة معينة من خلال العمل الفني أم العمل بذاته؟
اللغة ليست بطلا في النص إلا إذا كان المقصود أنها أساس العمل الأدبي فهذا صحيح إلى جانب الأسس الأخرى أو عناصر النص المختلفة إذا شئت. الفكرة والمعنى والرؤية إلى آخره تظل محور اللغة والصياغة.
ومع أننا نحاول في دراستنا اليوم ألا نفصل ما بين الشكل والمضمون أو المعنى والمبنى أو الكلمات والأشياء إلى آخر التسميات إلا أننا لا نتصور لغة دون مضمون أو العكس، والأرجح أنهما عنصران يكمل أحدهما الآخر في النص الأدبي، وأي ضعف أو إهمال لأحدهما هو إضعاف للآخر وللنص نفسه في آخر الأمر.
ـ يقال إن لديك طقوسا خاصة في كتابة القصة ومراحل كتابتها.. ما هي هذه الطقوس؟
لا أظن أنها طقوس خاصة كما هو الأمر عند كثيرين ولكنها ظروف متشعبة تتحكم في العمل الأدبي. فبداية أنا لا أعد نفسي من طبقة الكتاب، وسبب ذلك أن المسألة ما تزال تشبه. الهواية، التي تمارس عندما تسنح الفرصة فبعض المجموعات القصصية أو الروايات التي نشرت لي انتظرت أكثر من اثنى عشر عاما في الأدراج لظروف مختلفة كما أن بعض الأعمال الأخرى أخذت أكثر من عشر سنين لينجز العمل الواحد منها.. وهذه الظروف أو الطقوس إن شئت تشير إلى أن المسألة برمتها – الكتابة – ليست جوهرية أو لم تتجاوز باب- المداعبة الكتابية- بعد. وقد تحول إلى مسألة جادة وجوهرية إذا ما قيض لنا الزمان والمكان والموهبة اللازمة للانضمام إلى قوافل الكتاب والأدباء.
ـ مما يلاحظ على نهاية قصصك أنها مفتوحة فهل ترى أن القارئ جزء من النص يجد نفسه فيه بشكل أو بآخر؟ وهل إعطاء مفتاح القصة للقارئ جزء من نظرتك إلى فنية القصة؟
القارئ يكمل النص أو يجد نفسه فيه نعم هذا صحيح، فقد كان الأمر كذلك دائما، قديما وحديثا أي قبل بارث وغرييه، بكثير. فهذا ينطبق على شعر المتنبي وأبي العلاء كما ينطبق على شعر أدونيس ومحمد أبو الشيخ. وقصص اليوم التي تميل إلى الرمز تحمل في طياتها مفاتيح رموزها، والقارئ الذي يقرأ القصة – لا الذي يقيسها بالشبر مثلا- والذي يتابع حركة الأدب يستطيع فهم هذه الرموز والإشارات ويحسن استخدام مفاتيح النص الحديث.
ـ من اللافت للانتباه في واقع القصة القصيرة في الأردن ظهور الكثير من الأصوات وغياب هذا العدد في غيرها من الفنون الإبداعية فهل يرجع ذلك إلى سمة خاصة في القصة القصيرة؟
أجد في هذا السؤال مناسبة للإشارة إلى مسألة تكررت في الآونة الأخيرة حول أدب المرأة وأدب الرجل، فأنا لا أعرف أبعاد"موضة" الحديث عن أدب نسائي وأدب رجالي، وما الحكمة من وراء ذلك فالحديث عن الأدب يختلف عن الحديث عن الأزياء مثلا. إنه أدب أو فن أو إبداع سواء كان لجويس أو لفرجينيا وولف وسواء كان لطرفة أو للخنساء. إنما ظاهرة زيادة عدد الأدباء عن الأديبات عبر التاريخ فذاك مرهون بظروف مختلفة يعرفها الجميع، وكثير من هذه الظروف ما زال قائما أما أن كاتبات الرواية أو الشعر أو المسرحية، فهذا هو الحال في كل بلاد الدنيا. فقد تجد عشر كاتبات في القصة القصيرة في مقابل روائية واحدة وكذلك الأمر في المسرحية. أما في الشعر فأظن أن المعادلة تختلف وتكاد تكون متوازنة ولا أعرف إن كان الأمر كذلك في الأردن وإن كنت أعتقد أنه لا يبتعد عن هذا كثيرا. أما أسباب ذلك فمعروفة أيضا وهي تتعلق بوضع  المرأة وظروفها التي ورثتها عبر أزمنة طويلة فما زال المجتمع يوزع التركات والأدوار فهذا للرجل وذاك للمرأة.. هنا وفي آخر الدنيا كل هذا يعني أن المساحة المعطاة للمرأة بشكل عام – اجتماعيا وفكريا واقتصاديا ونفسيا وسفريا (السفر إلى العالم الآخر) وحرية.. إلى آخر الحكاية – تقيد قوى الإبداع لديها في الفنون الأخرى التي قد تحتاج إلى مساحات أوسع وأكبر لتتحرك فيها، وإلا ما الفرق بين كاتب وكاتبة من حيث الموهبة والإبداع، فنحن لا نقول إن هذا الأديب قد أبدع في عمله لأنه، رجل، كما لا نقول إن هذه الكاتبة نجحت في قصتها لأنها امرأة، وإنما لأسباب أخرى مختلفة.
كل هذا لا ينفي الأسباب الأولية الشائعة في هذه الظاهرة وهي أن الرواية أو المسرحية تحتاج إلى وقت أطول وإلى واجبات أمرحية أو بيتية أقل وإلى خبرات أكثر وارتحال أبعد إلى آخره، الأمر الذي لا يوفره المجتمع للمرأة ولا تساعدها عليه الظروف الراهنة، فتكتفي عند ذلك المرأة بإنقاذ ما يمكن إنقاذه من التعبير عن طاقاتها الإبداعية في القصة القصيرة والشعر إلى أن تصلح الأحوال وتتبدل الأزمان، ونغدو نرى في الشجرة غير الخشب والحطب وفي المرأة غير المرأة فقط.
يعتبر الدكتور أحمد الزعبي من ممارسي الإبداع والعمل الصحفي والإشراف عليه في دولة قطر. فكيف ترى الإبداع القصصي الشبابي في الخليج بالنسبة له في الأردن؟ وهل ثمة أسماء معينة من القاصين الأردنيين لها حضور في دول الخليج؟
أنا أشرف على الصفحة الأدبية في جريدة" الشرق" في قطر، وكان تركيزنا منصبا على أصوات الشباب في العام الماضي،وهناك عدد من الكتاب والكاتبات الذين يشقون طريقهم بسرعة ووعي في مختلف أنواع الفنون الأدبية، وأتوقع لكثير منهم النجاح والإبداع رغم ظروفهم الصعبة المختلفة.
لا حضور يذكر لكتابنا في الأردن على الخريطة الثقافية في قطر، باستثناء بعض الأسماء التي تعرفها فئة قليلة من المثقفين هناك، أغلبهم من المهتمين بالأدب والثقافة من خارج قطر، وأسباب ذلك هي الأسباب نفسها التي جعلت الأدب الأردني بشكل عام لا يتمتع بالحضور المأمول منه على الساحة الثقافية العربية بعض هذه الأسباب يتعلق بالأدب نفسه وبعضها الآخر في مشكلة التوزيع والتعريف والتواصل بين الثقافات العربية المختلفة الذي ليس على ما يرام، كما هو معروف.
ـ ما رأيك بالحركة النقدية في الأردن؟ وما هي إمكانات تطورها وتأثيرها على العمل الإبداعي القصصي مستقبلا وكيف؟
الملاحظ أن نقادنا منشغلون بشكل عام بالأعمال الكبيرة والأسماء المعروفة الأمر الذي يجعل الاهتمام بالأدب المحلي محصورا في نطاق ضيق أسباب ذلك كثيرة، أهمها، أن النقاد وأخص الأكاديميين، ينشغلون بدراسات وأبحاث تحتاج إلى جهد كبير وإلى وقت طويل وهذا يعني أن العمل الأدبي الذي يدرسه يفترض أن يستحق هذا الجهد والوقت في دراسته، فمثلا، قد يقضي الناقد أو الباحث سنة في دراسة عمل أدبي ما، فالناقد يشعر مسبقا أن العمل الذي يختاره يجب أن يستحق هذا الجهد المبذول فيه، الذي يحدث أن الناقد يفضل أن يدرس عملا لنجيب محفوظ أو محمود درويش عن أن يدرس عملا لكاتب محلي، يشعر أنه لا يتساوى أو يتوازى والجهد المبذول فيه. هذا الأمر يجعل الاهتمام بكاتبنا المحلي أقل من الاهتمام بالكتاب المعروفين، وأنا لا أرى هذا سليما لأن كثيرا من كتابنا يستحق هذا الجهد الذي يبذل في دراسة بعض الأعمال المعروفة. فلا يشترط أن يكون لدينا حنامينه أو الطيب صالح لكي ندرس أدبنا المحلي، وإنما يشترط أن تكون هناك أعمال مبدعة وغنية وهي بلا شك موجودة يقوم الناقد بدراستها دراسة جادة وعميقة لوضعها في مكانتها المناسبة على الخريطة الأدبية في العالم العربي، وطبعا أنا لا أعفي الأدباء المحليين من تقصيرهم في كثير من الأحيان من الكتابة السريعة غير الناضجة في بعض مؤلفاتهم، إذ ينبغي لهم أن يتمهلوا قليلا ويعرفوا ما هو إبداعي وما هو غير إبداعي فيقدموا على نشر الجيد ويحجموا عن نشر الردئ لكي لا يختلط الحابل بالنابل كما يلاحظ في الآونة الأخيرة. فقد تستبشر بكاتب ما قدم عملا مبدعا فتتوقع تطورا تصاعديا في خطه الإبداعي في أعمال لاحقة، لكن أملك يخيب عندما يستعجل النجاح أو الكتابة فتأتي أعماله اللاحقة أقل إبداعا، فيضيع في متاهات التسرع واللهوجة والكتابة من أجل الحضور المستمر فقط لا من أجل الإبداع والتميز. وكثير منا يذكر قول جيمس جويس عندما كتب روايته "يقظة فينجان" وقد أخذت منه سبعة عشر عاما لانجازها، قال: على القارئ أن يعطيني من وقته  لاستيعاب هذا العمل مثل ما أعطيته من وقتي لكتابته. وعلى ما في هذا القول من مبالغة إلا أنه ينطوي على إشارة هامة تتعلق بجدية المسألة وتقدير الإبداع سواء كان ذلك من الكاتب أم الناقد.
على اية حال أكرر ما قلته من سنوات وفي هذه الصفحة أن غياب الإبداع يكمن وراء غياب النقد،وأضيف أن الإبداع الحقيقي الجاد لابد أن يفرز نقدا حقيقيا جادا، وإن تعثر الأمر قليلا. وأنا أرى أن هناك أعمالا مبدعة جادة في ساحتنا المحلية وأرى كذلك بعض الدراسات الجادة التي تواكبها ولكني آمل أن تتسع حلقة الإبداع وتنضج أكثر فأكثر لتتسع بدورها حلقة النقد والمتابعة والاهتمام الأشمل والأعمق أكثر فأكثر. وهذا مرهون بقطبي المسألة: الكتاب والنقاد، فعلى الكاتب أن يجر الناقد رغما عنه من الأسماء الكبيرة وذلك من خلال أعمال مقنعة متطورة، وعلى الناقد أن "ينجر" إلى هذه الأعمال ما دامت جادة ومتطورة وأصيلة شكلا ومضمونا، لتصبح المسألة خدمة للواقع الثقافي والفكري وتطويرا له لا تثبيطا أو تحديا بين الطرفين.
ــــــــــــــــــــــــــــــ
ـ صحيفة الدستور، عمان، 17 أغسطس 1990.
 
 
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ــــــــــــــــــــــــــــــــ